كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وما جاء في حديث الصحيحين: ليس في الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب، منه خلق الخلق يوم القيامة.
وفي رواية مسلم كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب.
وصحح المزني أنه يفنى لقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} الآية الأخيرة من سورة القصص المارة، وقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ} الآية 26 من سورة الرحمن في ج 3، وعجب الذنب شيء على الأرض وعليه يكون تأويل الحديث أن كل الإنسان يبلى بالتراب ويكون سبب فنائه إلا عجب الذنب فإن اللّه تعالى يفنيه بلا تراب كما يميت ملك الموت بلا ملك موت والخلق منه والتركيب يمكن بعد إعادته فليس ما ذكر نصا في بقائه، وبذلك قال ابن قتيبة.
قال تعالى: {قُلْ} يا محمد لقومك وغيرهم {لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} من المطر والرزق والنعم الكثيرة من خزائنه الغير متناهية إذ لا يعلمها غيره.
واعلم أن إن أنتم هنا مرفوع بفعل يفسره الفعل بعده لأن لولا تدخل على الأسماء أي لو تملكون أنتم إلخ وهي حروف امتناع لا متناع بخلاف لولا فهي حرف امتناع لوجود، وعلى هذا قول حاتم وقد أسر فلطمته جارية فقال: لو غير ذات سوار لطمتني، أي لو لطمتني غير ذات سوار، وقول المتلمس:
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ** جعلت لهم فوق العرانين حيسما

وقول أبي جهل حين قتل ببدر: لو غير أكار قتلني هذا.
فمن جعل أنتم مبتدأ فقد أخطأ لأنه فاعل كما علمت.
قال تعالى: {إِذًا} أي لو ملكتم خزائن رحمة اللّه {لَأَمْسَكْتُمْ} على الناس أرزاقهم شحا بها عليهم فلم تعطوا أحدا منها شيئا {خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ} مخافة النفاد والخلاص لشدة حرصكم مهما كان مالكم كثيرا {وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا} 101 شحيحا جدا يبخل على نفسه ويبخل على غيره أيضا من باب أولى.
هذا، ولا يقال إن بعض الإنسان جواد فكيف جاء في هذه الآية التعميم وقد قال في حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم: له راحة لو أن معشار جودها على البر كان البر أندى من البحر وكان أكثر آل البيت كريما وليسوا بأهل دنيا، ويصدق عليهم قول الشافعي رحمه اللّه:
وهم ينفقون المال في أول الغنى ** ويستأنفون الصبر في آخر الفقر

إذا نزل الحي الغريب تقارعوا ** عليه فلم يدر المقل من المثري

لأن المقصود الأكثر من جنس الإنسان بخيل.
وليعلم أن حضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم غير داخل في هذه الآية المخاطب بها بلفظ الجمع، لأن اللّه تعالى يقول لحضرته قل لهم ذلك، أما غيره فإن الأصل في الإنسان الشح، لأنه خلق حينما خلق محتاجا لكل شيء فيمسك ما تصل إليه يده لنفسه ولأن بعض الكرم يكون منه السمعة والرياء ونشر الصيت، وقد يكون ابتغاء مرضات اللّه، وأهل هذا قليل وكل خير في القليل، وفي القليل بحث نفيس فإذا أردت أن تقف عليه فراجع الآية 73 من سورة النمل المارة، ووجه مناسبة هذه الآية مع ما قبلها أن المشركين المشار إليهم أعلاء لما اقترحوا على حضرة الرسول طلب الينبوع والأنهار كان لتكثير أرزاقهم واتساع الدنيا عليهم من وجه وتعجيزا للرسول من وجه آخر، وهو المراد إذ أهمهم شأنه بعد أن رأوا آيات الإسراء والمعراج وشاع ذكره في الآفاق أكثر من ذي قبل، فبين اللّه تعالى في هذه الآية أنهم لو أعطوا ذلك وملكوا خزائن الأرض ومفاتح رحمة اللّه لبخلوا وشحوا ولم ينفعوا أحدا، وهذا غاية في التشنيع عليهم بالبخل، وأنه كما وصفهم بالآية الأولى بأنهم منكبون على الكفر، وصفهم في هذه أنهم أيضا متلبسون بالشح، وهما صفتان مذمومتان ضرر أولاهما قاصر عليهم، وضرر الأخرى متعد للغير.
هذا، وبالجملة فإن الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وللخروج من عهدة الواجب، فكان إنفاقه في الأصل بمقابل عوض أيضا، فكان بخلا حقيقة، والمراد بهذا الإنسان الجنس فيشمل جميع أفراده، وإذا أريد به المعهود بأن اعتبرت ال فيه للعهد يكون المراد به الذين قالوا {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا} الآية السابقة، والأولى جعله عاما ليدخل في مفهومه هؤلاء وغيرهم،
ولما حكى اللّه تعالى عن قريش ما حكاه من التعنت والعناد تجاه رسوله صلّى اللّه عليه وسلم شرع يسليه بما جرى لأخيه موسى عليه السلام مع فرعون اللعين وما صنع بفرعون وقومه لعدم إيمانهم بنبيهم إعلاما لحضرته بأنه سيكون مصير من لم يؤمن من قومه به مثل مصيرهم، فقال تعالى: جده {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ} تقدم بيانها في الآية 172 من الأعراف مفصلة فارجعها.
وهذه التسع وقعت في حق القبط قبل خروجهم من مصر أما الآيات الخاصة في بني إسرائيل، فقد وقعت بعد ذلك وهي كثيرة، قال ابن رشد سألت اليهود حضرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن التسع آيات المبينات الواردة في القرآن، فقال لهم: «ألا تشركوا باللّه شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلا بالحق ولا تمشوا يبريء إلى السلطان ليقتله ولا تسحروا ولا تأكلوا الربى ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا الفرار يوم الزحف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا في السبت» فقاموا فقبلوا يديه ورجله وقالوا نشهد أنك نبي، قال فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قالوا إن داود عليه السلام دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن اتبعناك أن تفتلنا اليهود، قال الترمذي حديث حسن صحيح.
واعلم أن اللّه تعالى ذكر في القرآن من معجزات موسى عليه السلام تسع عشرة معجزة منها ما هو خاص به، ومنها ما هو خاص بالقبط، ومنها ما هو خاص بني إسرائيل، أولها إزالة العقدة من لسانه حتى ذهبت عجمته وصار فصيحا، والثانية والثالثة والرابعة هي بياض اليد وإحياء النقباء والخسف بقارون ورفيقيه، والخامسة انقلاب العصا حية، والسادسة جعلها تلقف حبال السحرة وعصيهم مع كثرتها أي ما طلي فيها كما بيناه في الأعراف، والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشر هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، الثانية عشرة الإظلال بالغمام، والثالثة عشرة شق البحر، والرابعة عشرة إخراج الماء من الحجر بضربه له بعصائه، والخامسة عشرة رفع الجبل وإظلاله فوقهم، والسادسة عشرة إنزال المنّ والسلوى، والسابعة عشرة الجدب المعبّر عنه بالسنين، والثامنة عشرة نقص الثمرات، والتاسعة عشرة الطمس على الأموال.
وكلها موضحة في سورة الأعراف والشعراء والقصص المارات وفي السور الآتية كيونس وهود وغيرها، وروي أن عمر ابن عبد العزيز سأل محمد بن كعب عن قوله تعالى: {تسع آيات بينات} فذكر في جملة التسع حل عقدة اللسان والطمس، فقال عمر هكذا يجب أن يكون الفقيه، ثم قال يا غلام أخرج ذلك الجراب، فأخرجه ففضه فإذا فيه بيص مكسور نصفين وجوز مكسور وفول وحمص وعدس كلها حجارة، أي أن هذه من بقايا ما طمس عليه من ثمرات بني إسرائيل وأموالهم.
واعلم أن تخصيص الذكر هنا بالتسع لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليها، لما جاء في أصول الفقه أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد.
وقد اتفق المفسرون على سبع من هذه التسع وهي: العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، واختلفت آراؤهم في الاثنتين الأخيرتين وأكثر الأقوال على أنها الأخذ بالسنين ونقص الثمرات كما بيناه في الأعراف لأن العقدة والعصا من خصائص سيدنا موسى عليه السلام وليست لقومه، أما كونها تلقف ما يأفكون فهي لقومه، قال تعالى: {فَسْئَلْ بَنِي إسرائيل} الموجودين في زمنك من أهل الكتابين الذين ستقدم عليهم في المدينة لتعرف كذبهم ويعرفوا صدقك، وليس المطلوب من سؤالهم استفادة العلم منهم عنها، بل لنقصود أن يظهر لعامة اليهود وعلمائهم صدق ما ذكره لهم، وعليه فيكون السؤال سؤال استشهاد لأنهم أولاد أولئك اليهود الذين ظهرت لهم تلك الآيات على يد نبيهم، وقد تناقلوها أبا عن جد فضلا عن ذكرها في التوراة التي هي بين أيديهم، ولهذا حسن النكني بهم عن أسلافهم {إِذْ جاءَهُمْ} موسى بها دليلا على صحة رسالته من ربه إليهم {فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ} لما ظهر عجزه تلقاء تلك المعجزات {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُورًا} 102 مفعولا بالسحر الذي استولى على جوارحك فصرت مطبوبا مختل العقل بطلبك قوما هم تحت سلطتي قديما، فكيف أرسل معك بني إسرائيل وأنت على ما أنت عليه.
وقال بعض المفسرين معنى مسحورا ماهرا بالسحر معطى علمه ومعلّمه، وهذه العجائب التي بينتها هي ناشئة عن مهارتك فيه، وظاهر الآية يدل على الأول، لأن المقام مقام ذم، والتفسير الثاني مقامه مقام مدح يأباه المقام بدليل ما فتحت به الآية الآتية التي جاوبه بها موسى عليه السلام، وهي {قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ} يا فرعون مما رأيت {ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وجعل تلك الآيات {بَصائِرَ} مرئيّات ظاهرات لا تخفى على أحد من شدة وضوحها تبصرك في صدقي، وتعلمك أني لست كما تقول مخدوعا أو خادعا أو مخيلا إلي أو ساحرا ماهرا مما تتقول به قبلا، لا بل إني عالم حاذق بصحة ما أقول من الأمر والنهي لأني أتلقاه من ربي خالق السموات والأرض وما بينهما وما تحتهما وما فوقهما، الذي أنزل تلك الآيات دلالة على صدقي وطلبا لإيمانكم، فما ظننت به كله كذب محض وبهت بحت، والقراءة الفصحى: {علمت} بفتح التاء لأن علم فرعون بأنها آيات نازلات من رب السماء او كد في الحجة، ولأن احتجاج موسى عليه السلام على فرعون بعلم فرعون او كد من الاحتجاج عليه بعلم نفسه على قراءة الضم التي معناها أنه أخبر عن نفسه أنه عالم بها وأنه غير مسحور، ونسب هذا القول إلى سيدنا علي عليه السلام، وأنه قال واللّه ما علم عدو اللّه ولكن علم موسى وهو قول ضعيف لا يستند اليه، لأنه مروي عن كلثوم المرادي وهو مجهول، ولهذا لما بلغ ابن عباس نسبة هذا القول لسيدنا علي لم يرضه واحتج بقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ} الآية 14 من سورة النحل المارة بما يدل على أن فرعون وقومه كانوا قد عرفوا صحة أمر موسى عليه كما أن بلقيس وقومها علموا معجزات سيدنا سليمان عليه السلام {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} 102 هالكا مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر لانكارك ما عرفت صحته من آيات اللّه مكابرة وعنادا، وقد قارع الظن منه عليه السلام بالظن من فرعون بالآية السابقة، لأنه لما وصفه بكونه مسحورا أجابه بكونه مثبورا لأن تلك المعجزات مبصرة نيرة لا يرتاب فيها عاقل ولا يقول بها إلا أنها من عند اللّه وانه أظهرها ليؤمن بها، قال تعالى: {فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ} أي يخرج فرعون موسى وقومه ويطردهم {مِنَ الْأَرْضِ} أرض مصر أو يعدمهم من ظهر البسيطة لما رأى بقاءهم يهدد ملكه بالخراب وسلطنته بالزوال، ولما كان ثابت في علم أنه لو أمهل فرعون وقومه ما أمهلهم لم يؤمنوا ويبقوا مصرين على كفرهم لهذا أغراه اللّه تعالى باتباع موسى وقومه وأدخلهم جميعا البحر {فَأَغْرَقْناهُ} لهذه الحكمة {وَمَنْ مَعَهُ} من القبط الذين جنّدهم لاسترجاع موسى وقومه واسترقاقهم فأهلكهم في البحر {جَمِيعًا} 103 فلم يفلت منهم أحد، راجع كيفية إغراقهم في الآية 40 من القصص والآية 63 من الشعراء والآية 78 من طه المارات، قال تعالى: {وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ} بعد إهلاكهم وإرائة جثثهم عائمة في البحر بما فيهم جثة فرعون {لِبَنِي إسرائيل} بعد انجائهم من الغرق ومن فرعون وقومه {اسْكُنُوا الْأَرْضَ} أرض مصر والشام في حياتكم الدنيا {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} الحياة الثانية يوم القيامة {جِئْنا بِكُمْ} مؤمنكم وكافركم وبركم وفاجركم {لَفِيفًا} 104 مختلطين جميعا من هاهنا من محال وجودكم، واللفيف هو الجماعة من قبائل شتى وهو اسم جمع لا واحد من لفظه كالجميع أي من اخلاط شتى شريف ووضيع عالي ورديء مطيع وعاصي قوي وضعيف، قال تعالى في القرآن الذي قال فيه: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ} إلخ الآية 88 المارة {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ} من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا دفعة واحدة كما أنزلنا التوراة والإنجيل والزبور {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} نجوما متفرقة على قلب محمد الشريف بواسطة الأمين جبريل عليهما الصلاة والسلام من سماء الدنيا محفوفا بالرصد من الملائكة محفوظا بهم من تخليط الشياطين، هذا، ولما كان القرآن نزل بلغة العرب وعادة العرب فيما يتكلمون بشيء يستطردون لغيره، فتذكره ثم تعود إلى ما كانت تتكلم به، وهكذا بعد أن ذكر اللّه تعالى القرآن واستطرد لذكر غيره وأنهاه، ذكر ما يتعلق به تعظيما له وإجلالا، أي انا لم نرد بإنزاله إلا تقرير الحق والصدق الذي أخبركم به المنزل عليه رسولنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم وقد اشتملت هذه الآية على أربع فوائد، الأولى أن الحق هو الثابت الذي لا يزول كما أن الباطل هو الزائل الذي لا يثبت لأن ما جاء من الشرع لا يتطرق اليه النسخ والنقص والتحريف ولزيادة، فكان حقا في كل الوجوه الثانية ان الانزال في قوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ} غير النزول الذي هو في قوله: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} فوجب أن يكون الخالق غير المخلوق على ما ذهب إليه بعض المتكلمين.
الثالثة ان الباء في قوله وبالحق بمعنى مع كما تقول نزل بعدته وخرج بسلامته أي أنزلناه مع الحق.
الرابعة ان جملة {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ} تفيد الحصر أي ان هذا القرآن ما نزل لقصد آخر سوى اظهار الحق فقط {وَما أَرْسَلْناكَ} يا خاتم الرسل {إِلَّا مُبَشِّرًا} بهذا القرآن الطائع بالجنة {وَنَذِيرًا} 105 به للعاصي في النار وما عليك من كفرهم شيء بعد أن تتقدم لهم بهذين الأمرين قال تعالى: {وَقُرْآنًا} نون للتعظيم والتفخيم وهو منصوب بفعل مقدر مثل {فَرَقْناهُ} فصّلناه وبيّنا الحق من الباطل وأنما أنزلناه عليك {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ} تؤدة وتثبت وترسل فتتلوه عليهم خلال اثنتين وعشرين سنة وشهور وأيام، راجع المقدمة في بحث نزول القرآن تعلم مدى نزول سورة المكية والمدنية، أي لا تقرأه عليهم بالسرعة والعجلة فورا بل تمهّل به لعله يوقر في قلوبهم، أولا بأول، هذا ومن قرأ فرّقناه بالتشديد فقد أضاع المعنى المراد منه أعلاه وما معناه على قراءة التشديد إلا أنه أنزل متفرقا، ومكث بضم الميم وسكون الكاف وقرئ بفتح الميم وضم الكاف قراءة شاذة والمعنى الذي ذكرناه تحتمله القراءتان تدبر {وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا} عظيما بحسب الحوادث والوقائع والأسئلة وعفوا حسبما هو كائن في أزلنا على الوصف المذكور فيه، وعلى ما تقتضيه الحكمة والمصلحة وتشديد الفعل يفيد التكثير، وذلك لأن تنزيله مفرقا مترادفا متقطعا ومتواليا فيه معنى التكثير، قال تعالى: {قُلْ} يا أكرم الرسل للذين كفروا بهذا القرآن الجليل {آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا} اختاروا لأنفسكم أحد الأمرين، واعلموا أن في الإيمان به النعيم المقيم في الجنة الخالدة مع النبيين والصالحين، وفي الكفر به العذاب الأليم الدائم مع فرعون وهامان، وإن إيمانكم بالنسبة له ولمنزله والمنزل عليه وعدمه سواء، لأنه لا يزيده كمالا، وجحودكم لا يورثه نقصا.
وفي الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى على حد قوله تعالى: {فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} الآية 28 من سورة الكهف في ج 2، وقوله جل قوله: {اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ} الآية 40 من سورة فصلت في ج 2.